لكلّ نظام أيديولوجيا تخدمه: هناك أيديولوجيا علنية تتمثّل في السياسات والأنظمة والقوانين، وأخرى ضمنية تتمثّل في الثقافة التي تحملها وتروِّج لها وسائل الإعلام والتربية ومجمل الأنشطة الثقافية.
لذلك نرى الإرتباط وثيقاً بين الإعلام والثقافة، فالإعلام ليس مجرّد ناقل محايد، بل يؤثّر ويتأثر في ظلّ سياق تساهم الأحداث المهمة في دفعه إلى الأمام مستجيباً بدينامية ومرونة للمتغيرات: "لقد تؤثّق الفعل الثقافي وترافق مع النشاط الإعلامي على مدى العصور، وتعاظم بعد التطوّر العلمي التقني والمعلوماتي... وأضحى الإعلام... الوعاء المناسب والأكثر سعة لحمل رسالة الثقافة، بل إن تفاعل الإعلام مع الثقافة وتوحدهما في رسالة مشتركة قد أسهما لاحقاً في التداخل والتنافذ وصعوبة التمييز بينهما".
لقد ظهر الإعلام الجماهيري في المجتمعات الغربية أبّان مرحلة التصنيع، إذ كانت الأولوية هي بيع المنتوج الفائض، فعمل من أجل الحصول على المستهلك المميّز وتصدّى لمهمة التوضيب الثقافي للناس كي يلتصقوا أكثر فأكثر بقيم المجتمع الإستهلاكي. ومع ازدياد المنافسة، أصبحت الحاجة ملحّة إلى أخذ خصوصيات الأسواق العالمية في الحسبان، وأصبح هامش الربح لدى التلفزيون التجاري ضئيلاً بسبب التنافس المحموم على الإعلانات وارتفاع كلفة البرامج، الأمر الذي جعل محطات التلفزة تعيد النظر في تركيبتها من جديد، فراحت في معظمها تتحوّل إلى تلفزة مختصة بنواحي معينة (موسيقى، رياضة، أفلام، صور متحركة... إلخ).
أمّا في المرحلة المسماة "ما بعد صناعية"، ومع وسائل الإعلام الإلكترونية، فقد أصبحنا نشهد ثقافة جديدة أيضاً يمكن تسميتها "ما بعد جماهيرية"، وهي ثقافة الصورة المستمدّة معاييرها من أيديولوجياً الإتّصال، تلك الأيديولوجيا الناعمة المصوِّرة نفسها على أنها من دون ضحايا، ومن دون أعداء، بل إن عدوّها الوحيد هو الفوضى، أي عدم إقامة الإتّصال. لذا شهد العالم صعوداً لما سمّي بـ "ثقافة الصورة" التي سهّل عملها أمور عديدة منها:
الأوّل: البلاغة الإلكترونية التي تحملها، والتي تتحول بحدّ ذاتها إلى عنصر إقناع من خلال الإبهار (الصوت، الصورة، الإيقاع، المؤثرات السمعية البصرية، سرعة النقل، طريقة التقديم).
الثاني: الإنتقائية التي تمارسها وسائل الإعلام يومياً، فهي التي تتحكم في تحديد أطر المعلومات المتاحة، وتضع لنا جدولاً يومياً بماذا يجب أن نفكر أو لا نفكر به، حتّى وإن كانت ظاهرياً توحي لنا بحرية الإختيار.
الثالث: تداخل عوامل: المال، والتوقيت الملحّ، والعلاقة بالناس. هذه العوامل الثلاثة تلخّص العناصر التي معها يتوجب على الصحافي يومياً أن يركّب شروط إمكانية التضليل، كما شروط الإعلام الحقيقي:
- بالنسبة إلى المال، لأنّ المؤسسة الصحافية مكلفة، إذ يستبعد السوق أي تعقيد ويستعيض عنه بالثنائية، ويستبدل التفسير بالإثارة، والقريب عوضاً عن البعيد.
- أمّا بخصوص الملح، فإنّه حالما أصبح الوقت يعني مالاً، تراجع العمل الصحافي القائم على التقصّي وتقاطع المصادر اللذين يستغرقان وقتاً. وقد أصبحت التقنيات الجديدة تميل نحو المباشر ونحو متطلبات المنافسة التي تضافرت لتجعل من الملح نمط إنتاج المعلومات بامتياز.
- وأخيراً، في ما يتعلّق بالناس، فإنّ علاقة التلفزيون معهم تسبق أو تدير محتوى الرسائل الإعلامية، أو ما يُسمّى في لغة الميديا بـ "خط المحطة"، أي صدى المشاهدين أو العصر أو الجيل أو نمط الحياة... الخ، لأن ثقافة الوسيلة المتلفزة هذه مثلها مثل أية مؤسسة تؤدّي إلى إقفال (ليس هناك من ثقافة من دون إقفال).
أولاً: أبرز العناصر المكوّنة للثقافة الإعلامية الرائجة
على الرغم من الإختلاف بين المحطات الفضائية العربية وغير العربية على صعيد انتقائها لبرامجها، وبالتحديد لبرامج التسلية والترفيه، إلا أنّ الثقافة التي تُشيعها هذه الأخيرة خصوصاً، ومحطات التلفزة عموماً، تقوم على مجموعة عناصر من أبرزها:
1- السرعة والآنية
إن الشاشة دائماً هي في عجلة من أمرها، فلا مجال للتوقّف والتفكير والعودة إلى الوراء. وهي تعمل على ضغط الزمن قدر الإمكان، لأنّ زمن البث سعره مرتفع، وكلّما تمكّنت من ضغطه استقطبت الإعلانات. لذا نرى دائماً الأحداث والإيقاعات سريعة، وكذلك الإتصالات (سؤال يليه جواب، الآن وبسرعة، وإلا فات الوقت وحلّت الخسارة)، وصور الفيديو كليب متلاطمة. هكذا يعيش المشاهد في حاضر أبدي واهتمامات اللحظة. إنها ثقافة الراهن، والديمومة وحسّ الإستمرارية يغيبان عن الوعي الإجتماعي والأفق السياسي. وذلك ما يفرض البحث عن متع اللحظة الراهنة.
إنّ ثقافة اللحظة تعني نسف التاريخ والهوية لصالح الإستهلاك والإثارة ويعتبر (جاك غوتراند) أنّ الوسائل السمعية البصرية دشّنت علاقة جديدة للإنسان مع الوقت، وذلك بإيمانه أنّها يمكنها أن تؤثر في الوقت، وأن توقفه (النجوم يبدون شباباً إلى الأبد)، وأن تسرَّعه، وأن تعود به إلى الوراء.
بموازاة ذلك، حمل التقدّم التقني إلى الميديا علاقات جديدة، كممارسة التحكم عن بعد. كذلك اتبعت الأفلام تقطيعاً جديداً أكثر فأكثر سرعة، كذلك إيقاع الاستديو والمقدّمين الذين يبلعون كلماتهم ويقاطعون المدعوين بطريقة يعطون الإنطباع فيها بنفاد الوقت، ما جعلنا نتساءل: هل فعلاً غدا وقت الميديا هو الذي يحدّد إيقاع وقت حياتنا اليومية، وتحت سيطرة اللحظة المتعاقبة، المتعطّشة لكلّ ما هو جديد ومباشر، أي مكان يبقى للذاكرة؟!
2- الربح السهل والسريع
يحيلنا الرخاء الذي نشاهده على الشاشة في الأفلام والمسلسلات، والجوائز التي يُمطَر بها المشاهدون، إلى ثقافة التشاطر حيث تهبط الثروة من دون عناء.
وطبيعي أن تغيب أمام هذه الثقافة الجهد والنفس الطويل، وتلعب الحظوظ دورها بامتياز. هذا فضلاً عن برامج الألعاب والمسابقات الرائجة عالمياً، والتي بدأ العديد من الفضائيات العربية بشراء حق التقليد لها، تقوم فكرتها على استغلال المشاهدين بالجملة وجمع الأموال منهم لتوزيعها أرباحاً في ما بعد على شركة الإتّصالات ومحطة التلفزيون، وما تبقى جائزة يربحها مشترك واحد عن طريق الحظ، والثبات في المغامرة، وحسّ المقامرة لديه.
3- النجومية الإعلامية
تحولت الشاشة إلى مصنع للنجوم من مقدِّمين ومقدّمات إلى عارضات، وإلى فنانين وفنانات ورجال سياسة ونجوم رياضة... إلخ. وتتمّ صناعة النجومية لأغراض ترويجية. وهذه النجومية هي على صلة وثيقة بثقافة الربح، أمّا نجومية الجهد والإنتاج والعلم فتقبع في مكانها المتواضع؛ مثلاً: إثارة حماسة الجمهور للألعاب الرياضية ليست بريئة، فتحت شعار التسلية تُخفي وسائل الإعلام ما تخطّطه الشركات للوصول إلى شمولية السوق التي تبحث عنها عبر اللغات المشتركة (كالرياضة والموسيقى وغيرها...). وبحسب رأي ريجيس دوبريه "إن التأثير يعني الدفع إلى الإعتقاد، والدفع إلى الإعتقاد يعني إعطاء مبررات للحياة. وهذه المبررات هي أولاً صور، وقوى لأناس ولأشياء...
4- المرح والتسلية والترفيه
يأخذ البعض على القنوات التجارية تحوّلِها إلى قنوات للتسلية والترفيه، وهو ما يبقيها على سطح الأحداث، ويجعل منها أدوات للتمويه وتزييف صورة الواقع لإلهاء وتعليق الفكر والإستسلام للأحاسيس ومِتَع اللحظة الراهنة.
وتواكب هذه المتعة متعة الإثارة الحسّية من خلال قنوات ترفيهية، مثل قنوات الموسيقى الراقصة تحت شعار: "ارقص على مدار الساعة، وعلى مدار العالم في العصر المتعدّد الجنسيات". هذه المحطة التي تطال 300 مليون منزل في القارات الخمس، هي ثمرة استراتيجية تمكّنت أن تتكلّم مباشرة مع الشباب أينما كانوا، مقدّمة لهم موجة مستمرة من اللامبالاة، والحيوية المفرطة، والحداثة الشهوانية، ومن الموسيقى (اللغة العالمية بامتياز)، وبالتحديد موسيقى الـ "روك أند رول" التي وصفت في الولايات المتحدة بأنها أكثر من موسيقى، إذ هي نمط حياة ومناخ، وقد بنيت برامج المحطة بأكملها على هذا النمط: فيض من الألوان والحركات والأضواء الضاربة بعنف على نغم جهنمي.
5- الإعلانات وبيع الأفلام
بعدما أصبح الإعلام شرطاً بنيوياً في تركيبة هذا النوع من القنوات، راح يؤدي دوراً حاسماً ونهائياً في تطوّرها. لذا نرى كيف تحدد أحياناً الشركات المعلنة نوعية البرامج المرئية بما يتلاءم مع ترويج سلعتها، وكيف يتحوّل البث إلى مجرد إطار للإعلانات يملأ الفراغ ببرامج منوّعة تتناسب والأيديولوجيا الإستهلاكية التي تعمل على بناء تصوّر عن العالم ونمط من العيش تقوم مرجعيته وأحكام قيمته على الإستهلاك، إذ لم ينحصر دور الإعلام في المجال التجاري، بل أخذ يتمدد في نشاطه ليطال كافة المجالات، السياسية منها والإنسانية الوطنية. ولأنّ الشاشة هي من الأدوات المساهمة في تشكيل الذوق العام، وفي إشاعة نماذج مستقبلية للحياة المعيشية، فإنّ هذا يحيلنا إلى الكلام عن خصوصية التلفزيون كوسيلة إعلامية.
ثانياً: خصوصية الوسيلة الإعلامية المرئية
غدا التلفزيون في الوقت الراهن موضوعاً تتفرّع منه عدّة موضوعات، فهو بوظيفته الإجتماعية التي يقوم بها يشارك من عدة زوايا: إقتصادية، ومهنية، وسياسية ومواطنية. ذلك يعني أنه موضوع لتحليل متعدّد الأبعاد، لكونه يتعلق بأطر نظرية عديدة، ولا سيما إذا أخذنا بعين الإعتبار أنّ التلفزيون هو شاشة تحمل دلالات عديدة، وليس عملية خارجية للإنتاج أو للتلقي. إنه يتميّز تبعاً لإشكاليات كبرى ثلاث: إشكالية أولى متجهة أكثر نحو المحتوى، سواء كان حدثياً أو تمثيلياً، وإشكالية ثانية متجهة أكثر نحو الشكل، سواء كان أيقونياً أو شفوياً، وإشكالية ثالثة متجهة أكثر نحو الإتّصال.
وعلى الرغم من أنّ المشاهدين يستخدمون آلة التحكم عن بعد، وتحرّكهم رغباتهم وعوامل الصدفة، فإنّ المفكّرين والباحثين أولوا هذه الوسيلة الكثير من الإهتمام، فكانت لهم إزاءها اتّجاهات متعددة:
1- الإتجاه الميديولوجي
كان من أقطاب هذه الإتجاه باحثون عديدون، بدءاً من ماك لوهان إلى ريجيس دوبريه الذي أولى سلطة حاسمة للجهاز التقني. ويرى ريجيس دوبريه أنّ الثقافة البصرية تتخلّق بأخلاق الآلة التي تحملها، وأنّ التلفزيون، ذلك الجهاز الذي يتطلب السرعة والمباشرة والآنية، والصورة الجميلة، والأنوثة، والألوان الحية، هو مكوّن أصلاً للتسلية، وهو متوافق تماماً مع غايته، وهو يدخل الإنسجام في الأمور المتنوعة، ويحوّل الواقع إلى خرافة.
لقد أصبح التلفزيون آلة إقتصادية، وليس أنبوباً من الأفكار وقسطلاً من الحواس. فالآلة تحمل أخلاق صيانتها إثارة النقد ونقل الأفكار وإنتاج قناعة معينة، إنّما شيء ما بين القبول السطحي والإشاعة الإجتماعية وقبول الإشاعة، فتصبح الثقافة البصرية تبعاً لهذا التخلق ثقافة مجزأة مفتتة سطحية إستهلاكية. وقد تساهم هذه الأخيرة في تفكيك البنى الثقافية القائمة، وهي غير قادرة وحدها على تشكيل بنى جديدة، ذلك لأنّ التلفزيون يقدّم تصوّراً للعالم يسوده التركيز الإعتباطي المفاجئ على قضية ما والإيقاف المفاجئ لها.
إنّه أداة مميّزة لفرض الكثير من مفاهيم العصر، لفرض وتيرة الحدث، ولإختزال التعقيد إلى صورة بسيطة، كما يرى إدوارد سعيد، فالسيل من الصور والكلام المتدفّق من التلفزيون يصبح شيئاً بديلاً من العمل الذهني، وتضمر بذلك القدرة على التفكير، لأنّ الصورة جذابة مغرية توحي بالإسترخاء ومتعة التلقي.
وتنبع أهمية الترفيه في الثقافة البصرية من أنّ المشاهدة التلفزيونية تدخل من دون إحداث ضجة، خصوصاً إذا كان البرنامج ترفيهياً شعبياً وغير سياسي، الأمر الذي يضع الإنسان في إطار معادلة معرفية جديدة ما فوق سياسية، بمعنى أنّها تطال أشكال وأنماط تفكير، وطرق وأساليب ممارسته في الحياة اليومية والعملية، فتأتيه من حيث لا يدري، لأنّه عندما يتعلّق الأمر بمشروع يخاطب الأحاسيس تسقط كلّ مقاومة وينتفي عملياً ونظرياً البديل، فتحل المشاهدة مكان المشاركة.
2- الإتّجاه النقدي
يرى هذا الإتجاه في التلفزيون أداة لسيطرة رمزية. ورأى بورديو أنّ منطق النظام نفسه هو الذي يتحكّم بهذه الآلية في التلاعب بالعقول، وهو القائم على تفضيل وهيمنة فئات على حساب فئات أخرى، وأن التوظيف والمضمون الأيديولوجي للتكنولوجيا يتجلّى في دور التلفزيون الفضائي، إذ لا يقتصر دوره في التأثير المباشر في المشاهد، بل يمتد إلى مجالات أخرى تشمل الإنتاج الثقافي.
وتحرّك التلفزيون، تبعاً لبورديو، أيديولوجيا ناعمة متمثلة في الجرعات اليومية واللحظة التي تبثّها وسائل الإعلام، وهو في هذا المناخ من الفساد البنيوي يمارس نوعاً من العنف الرمزي، ومخاطره تأتي من حقيقة أنّ للصورة تلك الخاصية التي يمكنها أن تنتج ما يسميّه نقاد الأدب "تأثير الواقع".
لذلك يرغب التلفزيون حالياً في استغلال وتملّق أذواق مشاهديه، وذلك بتقديم إنتاج يتجسّد نموذجه في المشاهد السريعة التي تستعرض التجارب المعاشة في الحياة دون أقنعة، وهي غالباً متطرفة معدّة لترضي نزعة البصبصة والتلصلص والميول الإستعراضية التي تملأ مجتمعنا، المجتمع الإستعراضي، على حدّ تعبير بورديو.
باختصار، يدخلنا التلفزيون في عالم جديد حيث منطق الإغراء حلّ محل منطق الإقناع (من هنا التأنيث المتزايد فيه)، إذ إن منطق الجلسة الجيدة أهمّ من منطق الحجة والبرهان، كما أشار دوبريه. لذا يتمّ العمل أكثر فأكثر على دمج كل شيء بالبرامج الترفيهية، فكل شيء غدا للعرض، وهل أجمل من "عرض الفتيات"!؟ وهل أسهل من عرض الإختلافات والمشاكل؟ وهل أصدق من عرض المشاعر والأحاسيس والعواطف؟
3- الإتجاه التفاؤلي
تجسّد في فرنسا بدومينيك ولتن الذي رأي في التفلزيون أداة ديمقراطية.
4- الإتجاه الفاصل
يفصل بين الجيل السابق من التفلزيون والجيل الحالي من التلفزيون. الأوّل نُظِّم على أساس الفصل بين الإعلام والمشهد، أما لثاني فخلط بينهما، فبعد أن كان التلفزيون بمثابة مرآة للأحداث غدا منتجياً للحقيقة المتلفزة المستقلة. وغدا يبيّن نفسه، وأصبحنا نرى الكاميرات وطلب التصفيق مباشرة. وعوضاً عن تبيان التلفزيون للعالم الخارجي غدا يبيّن الناس لأنفسهم. وكاد التلفزيون الحديث يجعل اللاواقع بمتناول الجميع. ومن هنا، طرح أمبرتو إيكو السؤال: عمن يتكلم التلفزيون، عن العالم، أم عن نفسه، أم عن الجمهور؟ ليجيب أنّ التلفزيون الراهن يعرض نفسه ويتكلم عن نفسه أكثر ما يتكلم عن العالم الخارجي.
ومهما تضاربت الآراء في وظيفة التلفيزيون كجهاز، إلا أنّه يبدو أنّ كلّ محطة تلفزة من خلال اتّصالها عليها أن تدع ثلاثة أنماط من الخطابات تتعايش في ما بينها:
- خطاب المشروع أو المنشأة الذي يضع الروابط القانونية والإقتصادية للواقع الإجتماعي الإقتصادي في المقام الأوّل، والمتمثل بمجموعة الملامح الإنسانية والأبنية وقنوات التبادل والأموال، والخطاب الذي يأخذ به هذا النمط مع الجمهور هو خطاب تبادل المعلومات.
- خطاب المؤسسة كمشروع يتبنّى وجهة نظر الفضاء العام، ويحدّد نفسه على أنه بطل لمهمة عليه تأديتها.
- خطاب الادمغة أو العلامة، يهدف هذا الخطاب أولاً، بعكس الخطاب الأوّل القائل إنه وجد لخدمة الجمهور، إلى تحديد السلوكيات من خلال التدليل على الأشياء التي تحدّث في العالم. وتكمن الصعوبة في جمع هذه الخطابات ذات المصالح المختلفة.
بناءً على ما تقدّم، نطرح التساؤل التالي:
إزاء الثقافة الفضائية الجديدة، التي من الملاحظ أنها غدت سائدة، وهي المستندة إلى تلك الأيديولوجيا الناعمة القائمة على تمجيد الحاضر والتنكّر للماضي، وعلى تغييب الجهد والإستمرارية لصالح المتعة واللحظة والإثارة، والتي تمارس عنفاً رمزياً على المجتمعات، وإن كان بمستويات متفاوتة، فما مدى تحسس الإعلام الفضائي العربي لنعومة هذه الأيديولجيا؟ وما مدى وعي هذا الإعلام الجديد لرمزية العنف الممارسة على مجتمعاته؟ وهل أعدّ نفسه لمجابهة ذلك أن أنه سيعيد إنتاجها بنعومة أكبر ورزمية أعنف، وهذه المرّة باللغة العربية؟