بسم الله الرحمن الرحيم
هذا من أجل نوع وأفخمه ، فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه ، ولأهل المعرفة بالحديث فيه تصانيف كثيرة :
منها ما أفرد في الضعفاء : ككتاب الضعفاء للبخاري ، والضعفاء للنسائي ، والضعفاء للعقيلي وغيرها .
[ ص: 388 ] ومنها في الثقات فحسب : ككتاب الثقات لأبي حاتم بن حبان .
ومنها ما جمع فيه بين الثقات والضعفاء كتاريخ البخاري ، وتاريخ ابن أبي خيثمة وما أغزر فوائده ، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي .
روينا عن صالح بن محمد الحافظ جزرة قال : أول من تكلم في الرجال شعبة بن الحجاج ، ثم تبعه يحيى بن سعيد القطان ، ثم بعده أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين . وهؤلاء .
[ ص: 389 ] قلت : وهؤلاء يعني أنه أول من تصدى لذلك وعني به ، وإلا فالكلام فيه جرحا وتعديلا متقدم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، وجوز ذلك صونا للشريعة ، ونفيا للخطأ والكذب عنها .
وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة ، ورويت عن أبي بكر بن خلاد قال : قلت ليحيى بن سعيد : أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة ؟ فقال : لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لي : " لم لم تذب الكذب عن حديثي ؟ " .
وروينا - أو بلغنا - أن أبا تراب النخشبي الزاهد سمع من أحمد بن حنبل شيئا من ذلك ، فقال له : " يا شيخ ! لا تغتب العلماء ، فقال له : ويحك ! هذا نصيحة ليس هذا غيبة " .
ثم إن على الآخذ في ذلك أن يتقي الله - تبارك وتعالى - ويتثبت ويتوقى التساهل ، كيلا يجرح سليما ويسم بريئا بسمة سوء يبقى عليه الدهر عارها ، وأحسب أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم - وقد [ ص: 390 ] قيل إنه كان يعد من الأبدال - من مثل ما ذكره خاف ، فيما رويناه أو بلغنا أن يوسف بن الحسين الرازي وهو الصوفي دخل عليه وهو يقرأ كتابه في الجرح والتعديل ، فقال له : كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مائة سنة ومائتي سنة وأنت تذكرهم وتغتابهم ؟ فبكى عبد الرحمن .
وبلغنا أيضا أنه حدث وهو يقرأ كتابه ذلك على الناس عن يحيى بن معين أنه قال : " إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة منذ أكثر من مائتي سنة " فبكى عبد الرحمن ، وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده .
قال المؤلف : وقد أخطأ فيه غير واحد على غير واحد ، فجرحوهم بما لا صحة له .
من ذلك : جرح أبي عبد الرحمن النسائي لأحمد بن صالح ، وهو إمام حافظ ثقة ، لا يعلق به جرح ، أخرج عنه البخاري في صحيحه ، وقد كان من أحمد إلى النسائي جفاء أفسد قلبه عليه .
وروينا عن أبي يعلى الخليلي الحافظ قال : اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل ، ولا يقدح كلام أمثاله فيه .
[ ص: 391 ] قلت : النسائي إمام حجة في الجرح والتعديل ، وإذا نسب مثله إلى مثل هذا كان وجهه أن عين السخط تبدي مساوئ لها في الباطن مخارج صحيحة تعمى عنها بحجاب السخط ، لا أن ذلك يقع من مثله تعمدا لقدح يعلم بطلانه ، فاعلم هذا فإنه من النكت النفيسة المهمة .
وقد مضى الكلام في أحكام الجرح والتعديل في النوع الثالث والعشرين ، والله أعلم .