بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بين تطبيق الشريعة وتحكيم الشريعة
هناك مفاهيم في قضية الشريعة ربما تغمض عن البعض, ولعل من أبرزها: أن تطبيق شريعة الله والامتثال لها في واقع الحياة هو فرع عن الإيمان بها والاحتكام لها في القلب والوجدان, فلا يمكن أن يوجد الحكم بالشريعة إلا بعد التحاكم إليها, حيث أن هذا التحاكم هو حقيقة الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
إذا اتضح هذا المفهوم فإن منهاج المطالبة بالشريعة في بلاد المسلمين سيأخذ منحى آخر, فهناك من سنطالبهم بتطبيق الشريعة وهم المؤمنون بها والمتحاكمون بقناعة لها ولكنهم مقصرون في تنفيذ أحكامها، وهناك أيضا من سنطالبهم بالإيمان أولا بتلك الشريعة وبتعظيم أحكامها الذي هو تعظيم لمن نزلها وهو الله سبحانه وتعظيم لمن نزلت عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم للكتاب الذي نزل بأحكامها وهو القرآن الكريم.
لقد أنزل الله تعالى هذا القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم نورا وهدى من أجل الاهتداء به والاحتكام إليه, مثلما تنزلت الكتب السماوية السابقة للغرض نفسه, وقد جاءت شريعته جامعة لما تفرق فيما سبقها من هدايات, وزائدة عليها مرات ومرات. قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ولما نزلت تلك الشريعة هذا القرآن واكتملت تباينت مواقف الناس منها؛ فمنهم من آمن بها, ومنهم من صد عنها, وصاروا فريقين: فريقا متواضعا لأمر الله مستجيبا لندائه ومعظما لشعائره وشرائعه, وفريقا وضيعا معرضا عن هديه ومستكبرا عن حكمه, وبين الفريقين دارت بالأمس وتدور اليوم وستدور غدا رحى الصراع بين الحق والباطل.
فأما الفريق الأول: وهم المعظمون لشرع الله, فهم في الحقيقة معظمون لله تعالى نفسه, فهم لما عرفوه عظموه, ولما عظموه قدروه حق قدره, فقاموا لشرعه مقام الإجلال والتوقير, وأنزلوا حكمه وشرعه منزلة التعظيم. وقد تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله عن منزلة تعظيم الله, وما يستتبعها من التعظيم لأمره في شرعه وقدره, فبين أن هذه المنزلة ثلاث درجات:
الأولى: تعظيم الأمر والنهي, أوتعظيم الحكم الشرعي الديني؛ وذلك بأن لا يعارضا بترخص جاف, أو يعرضا لتشدد غال, ولايحملا على علة توهن الانقياد.
والدرجة الثانية: هي تعظيم الحكم الكوني القدري؛ بأن لا يبغي له عوجا بل يراه كله مستقيما؛ لأنه صادر عن صاحب الحكمة فلا عوج فيه.
والدرجة الثالثة: تعظيم الحاكم سبحانه, صاحب الخلق والأمر. (انظر: مدارج السالكين لابن القيم)
وأما الفريق الثاني: فريق المعرضين والمعترضين على شرع رب العالمين, فهم في دروب التيه والضلال سائرون, وفي غياهب الغي سادرون، فمنهم معترضون بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ماحرم الله سبحانه, وتحريم ماأباحه, وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ماأسقطه, وإبطال ماصححه وتصحيح ما أبطله, واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره, وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما قيده.. ومنهم المعترضون على حقائق الايمان والشرع بالأذواق والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية, وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا, وقدموها على شرع الله ودينه, واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله.. ومنهم أهل الاعتراض بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات (المناصب) التي قدموها على حكم الله ورسوله, وحكموا بها بين عباده, وعطلوا بها شرعه وعدله وحدوده, وقالوا: إذاتعارضت السياسة والشرع, قدمنا السياسة فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه" (مدارج السالكين2/65).
هل تجاوز ابن القيم أحدا ممن كرهوا ماأنزل الله في عصرنا؟
هل تغيرت أحوال المعرضين والمعترضين على شريعة الله؟
إن هؤلاء وأولئك المذكورين من منكري النعمة, ومبغضي العدل الإلهي, هم أصناف ثابتة في جوهرها ومخبرها وإن تباينت أشكالها ومظاهرها, تشابهت قلوبهم, وإن اختلفت ألوانهم وألسنتهم وثقافتهم، وتقاربت وجهتهم, وإن تباينت أماكنهم وأزمنتهم.
إن الأهواء تجمع هؤلاء, ومهما طولبوا بـ "تطبيق" الشريعة, فإنهم لن يحركوا لها ساكنا حتى تتحرك قلوبهم بالتعظيم الموصل للتحكيم, وحتى يحدث ذلك؛ فإن على حملة الشريعة وحماتها واجب حمايتها ورعايتها والسعي لنصرتها مع الموالاة فيها والمعاداة عليها, وإن أعرض المعرضون, وتجاهل الجاهلون. قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئًا وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [الجاثية 18-20
دمتم برعاية الرحمن وحفظه