الاستحسان
الاستحسان لغة: عد الشيء حسناً، كأن يقال استحسنت كذا أي اعتقدته وعددته حسناً، واصطلاحاً: هو العدول بالمسألة عن حكم نظائرها إلى حكم آخر، لدليل أقوى يقتضي هذا العدول، سواء أكان هذا الدليل نصاً، أم إجماعاً، أم ضرورة، أم قياساً خفياً أم عرفاً، أم مصلحة عامة.
وتوضيح ذلك أن بعض المسائل قد يتناولها نص من نصوص الشريعة العامة، أو قاعدة من القواعد المقررة، ولكن يوجد فيها دليل خاص من نص، أو إجماع أو ضرورة، أو عرف، أو مصلحة يقتضي خلاف ما يقتضيه النص العام، أو القاعدة العامة، فيعمل بمقتضاه، ويعدل المجتهد عن الحكم العام، ويسمى هذا العدول استحساناً.
أو أن بعض المسائل التي سكت الشارع عن بيان حكمها قد يتجاذب الحكم فيها قياسان متعارضان، لكن قياسها على أحد الأصلين يكون ظاهراً جلياً لظهور العلة، وتبادر الذهن إليها، وقياسها على الآخر يكون خفياً، لخفاء علته، ويترجح هذا القياس عند المجتهد فيأخذ به، ويسمى ذلك استحساناً في مقابل القياس الجلي. وهكذا فالاستحسان إما عدول عن الحكم العام لدليل خاص اقتضى ذلك العدول، وإما عدول عن القياس الجلي إلى القياس الخفي، لقوته في نظر المجتهد.
أنواع الاستحسان
يتضح من تعريف الاستحسان أن أنواعه ستة:
النوع الأول: الاستحسان بالنص، ويتحقق: في كل مسألة يعدل بها عن الحكم العام الثابت لنظائرها بمقتضى نص عام أو قاعدة عامة ثابتة ومقررة إلى حكم آخر يخالفه، لورود نص من قرآن أو سنة يقتضي ذلك العدول، فهو شامل لجميع المسائل التي استثناها الشارع من حكم نظائرها؛ ومن أمثلة ذلك الوصية فهي تمليك مضاف إلى ما بعد الموت؛ أي إلى زمن تزول فيه الملكية، فالقاعدة العامة تقتضي بطلان الوصية وعدم صحتها؛ لأن التمليك لا يجوز أن يضاف إلى وقت تزول فيه الملكية، ويصبح المال فيه للوارث؛ ولكن عدل عن الحكم بالبطلان إلى الحكم بصحة الوصية استحساناً، لورود النصوص بجوازها كقوله تعالى: )مِنْ بَعْدِ وصيَّةٍ يُوصِي بِها أو دَيْنٍ( (سورة النساء آية 11)، وبقوله تعالى: )إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم(.
النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع، وذلك بأن يفتي المجتهدون في مسألة على خلاف الأصل العام المقرر في نظائرها، أو بسكوتهم وعدم إنكارهم. ومن أمثلة ذلك: عقد الاستصناع[ر] وهو أن يتعاقد شخص مع آخر أن يصنع له شيئاً بأجرة معينة، وبشروط مخصوصة، فإن القياس عدم جوازه، لأن القاعدة المقررة والعامة في أحكام البيع: أن العقد على المعدوم باطل، وهنا الشيء المطلوب صنعه معدوم وقت العقد، ولكن الناس تعارفوا على التعامل بذلك في كل العصور، ولم ينكر عليهم أحد من المجتهدين فكان ذلك استحساناً لتحقق الإجماع على الحكم، فالمراد بالاستحسان هنا العدول عن الحكم ببطلان الاستصناع إلى الحكم بصحته، لوجود الإجماع من المجتهدين على صحته.
النوع الثالث: الاستحسان للضرورة والحاجة، وقد مثلوا لهذا بتطهير الآبار والحياض إذا تنجست فإن القياس والقاعدة العامة ألا تطهر إذا تنجست سواء أنزح جميع الماء الذي فيها أم بعضه، وذلك لأن نزح بعضه لا يؤثر في طهارة الباقي كما هو واضح، ونزح جميع الماء أيضاً لا يفيد طهارة ماينبع من جديد، لأن الجديد يتلوث مباشرة عندما يلاقي الماء المتلوث، وهكذا يتنجس الجديد، ولكن ترك العلماء القياس والقاعدة في التطهير للضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، وقالوا بالطهارة بعد نزح بعض الماء كما هو مفصل في كتب الفقه.
النوع الرابع: الاستحسان بالقياس الخفي ويتحقق هذا النوع حينما يجتمع قياسان متعارضان، أحدهما جلي ظاهر، والآخر خفي، ولكنه أقوى منه في نظر المجتهد، ومن أمثلة ذلك أن الولي على المال يملك بعض التصرفات باتفاق علماء الحنفية، ولا يملك بعضها الآخر بالاتفاق بينهم أيضاً، فمن التصرفات التي يملكها بالاتفاق الإيداع، ومن التصرفات التي لا يملكها باتفاق أيضاً وفاء الدين الذي عليه من المال الذي في ولايته، وهناك تصرف ثالث يشبه كلاً من الوفاء والإيداع: وهو الرهن؛ فإنه يشبه الإيداع من ناحية أن كلاً منهما وضع المال عند الغير، ويشبه الوفاء من ناحية أن المدين إذا عجز عن وفاء الدين فإن المرهون يباع ويستوفى الدين من الثمن، ولذا اجتمع في الرهن قياسان أحدهما: قياس الرهن على الإيداع، ومقتضى هذا القياس الجواز، وثانيهما: قياس الرهن على الوفاء، ومقتضى هذا القياس أن الولي لا يملك الرهن كما لا يملك الوفاء.
وقد نص فقهاء الحنفية أن قياس الرهن على الوفاء قياس جلي، وقياسه على الإيداع قياس خفي وهو الاستحسان، وبه قال أبو حنيفة وتلميذه محمد بن يوسف فيجوز من الولي.
النوع الخامس: الاستحسان بالعرف والعادة ويظهر هذا النوع في كل تصرف يتعارف عليه الناس ويعتادونه إذا كان يخالف قياساً، أو يخالف قاعدة، ومثال ذلك أن القاعدة المقررة: أن الوقف من شأنه أن يكون مؤبداً، ومقتضى ذلك عدم جواز وقف المنقول، لأنه على شرف الهلاك، فلا يكون قابلاً للتأبيد، ولكن الإمام محمداً أجاز وقف ما جرى العرف بوقفه من المنقولات استحساناً على خلاف القياس كوقف الكتب ونحوها.
النوع السادس: الاستحسان بالمصلحة ويتجلى هذا النوع في كل تصرف يخالف القياس أو القاعدة من أجل تحقيق مصلحة عامة، ومن أمثلة ذلك تضمين الصناع استحساناً للمصلحة، فإن القياس يقتضي عدم التضمين، لأنهم بموجب عقد الإجارة أمناء على ما بأيديهم لا يضمنون ما يتلف تحت أيديهم إلا بالتقصير في الحفظ أو بالتعدي، كالخياط والكواء؛ لكن الاستحسان يقتضي تضمينهم حفظاً لأموال الناس، ودفعاً للحذر، وعدم التهاون والتفريط في أموال الناس؛ إلا إذا كان الهلاك بسبب لا يمكن دفعه كالحريق الشامل، أو النهب العام.
حجية الاستحسان
يتبين من تعريف الاستحسان وأنواعه أنه في الحقيقة لا يُعَدُّ مصدراً مستقلاً بل هو مصدر تبعي، لأنه في حقيقته استدلال بقياس خفي ترجح على قياس جلي، أو ترجيح قياس على قياس يعارضه لوجود دليل شرعي من آية أو حديث يقتضي ذلك الترجيح، أو استدلال بالمصلحة العامة على استثناء جزئي من حكم كلي وهكذا. فالاستحسان إما أن يثبت بالدليل كالسلم، وعدم فساد الصوم بالأكل أو الشرب ناسياً، وإما بالإجماع كالاستصناع؛ وإما بالضرورة كطهارة الآبار، وإما بالقياس الخفي، أو بالعرف كما تقدم.
ولقد أنكر الإمام الشافعي الاستحسان وقال: من استحسن فقد شرع. وعلى الرغم من قوله فقد روي عنه أن استحسن جواز شرب الماء من السقائين من غير تقدير للماء المشروب، وغير ذلك.
ولعل الاستحسان الذي ينكره الإمام الشافعي ويقول عنه من استحسن فقد شرع هو الاستحسان المبني على الرأي والهوى من غير اعتماد على دليل شرعي، ولا شك في أن هذا النوع من الاستحسان باطل عند جميع العلماء.
ومما يستأنس به لحجية الاستحسان مجموعة من النصوص، منها: قوله تعالى: )واتَّبِعوا أَحْسَنَ ما أُنزِلَ إِليكُم مِنْ رَبِّكُم( (آية 55 من سورة الزمر)، وقوله سبحانه: )الذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْل فَيَتَّبِعونَ أَحْسَنَهُ( (آية 18 من سورة الزمر)؛ وبقوله e: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» (رواه الإمام أحمد موقوفاً على ابن مسعود).
فهذه النصوص تؤكد أن المؤمن يتبع الأحسن، وأن ما يستحسنه المسلمون فهو حسن ومقبول عند الله؛ ولهذا قال الإمام الشاطبي في الموافقات: من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، ويذكر الحنفية في كتبهم باستمرار: أن الحكم قياساً كذا، واستحساناً كذا؛ وهذا يعني تقديم القياس على الاستحسان عند علماء الحنفية في بعض المسائل لا في جميعها.
والاستحسان على أي حال دليل ظني في دلالته على الأحكام، كالقياس في دلالته وحجيته، فهو في حقيقته حجة ظنية لا قطعية عند جميع العلماء.
إبراهيم السلقيني
مراجع للاستزادة
ـ عبد الوهاب خلاف، أصول الفقه (القاهرة 1955).
ـ محمد أبو زهرة، أصول الفقه (القاهرة 1974).