السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
الميـــــــاه الجوفيـــــةهي الأفضـل
رغم أن الكرة الأرضية يطلق عليها أحيانًا (الكوكب الأزرق) بسبب كثرة مياه المحيطات بها بالمقارنة باليابسة، فإن تلك المياه أكثرها مالحة لا يستطيع الإنسان أن يشربها، والمتوفر الصالح للاستخدام الآدمي منها جزء ضئيل، كما أن 95% من إجمالي المياه العذبة توجد في باطن الأرض.. أي ما نسميه بالمياه الجوفية.
تسير المياه الجوفية داخل الفراغات التي توجد بين الرمال والحصى، وعبر تشققات الصخور، وقد تتجمع تلك المياه داخل طبقة صخرية مائية Aquifer ترقد فوق طبقة من الصلصال أو من الصخور الأقل نفاذية. أما في الطبقات الجيرية، فقد تتجمع المياه الجوفية وتجري داخل قنوات وكهوف كبيرة. وقد يحدث أن تحبس المياه الجوفية لآلاف السنين، بل وملايينها بسبب تغيرات جيولوجية حدثت بباطن الأرض وهو ما يؤدي إلى تكوين ما يعرف بمياه العصور الحجرية أو Paleowater .
تتم إعادة اختزان المياه الجوفية عن طريق مياه الأمطار، وذوبان الجليد وترشيح المياه السطحية إلى أسفل داخل التربة، وتعتمد معدلات إعادة الاختزان على جيولوجية المنطقة وظروف الطقس بها، بالإضافة إلى وفرة الغطاء النباتي على سطح الأرض بها. وتجد تلك المياه الجوفية طريقها إلى سطح الأرض عبر عدة طرق.. فقد ترتفع طبيعيا إلى السطح على هيئة ينبوع.
أو قد تصب داخل البحيرات والأنهار والمحيطات، أو قد يقوم الإنسان بحفر بئر يصل حيث المياه الجوفية.
وتعتبر حركة تلك المياه إلى أسفل من أجل إعادة الامتلاء ثم إلى أعلى مرة أخرى من أجل الخروج - عملية ترشيح طبيعية لها، وهو ما يجعل المياه الجوفية تحت الظروف الطبيعية من آمن مصادر المياه للاستخدام الآدمي على وجه الأرض، بل ومن أفضل المصادر لإنتاج المحاصيل الزراعية الجيدة. وقد يتأثر مخزون المياه الجوفية إذا كان معدل استخراج المياه من الطبقات الصخرية المائية أكبر من معدل إعادة امتلائها. كما قد تتأثر بالملوثات المختلفة عن طريق تسربها إلى داخل التربة، وبالتالي إلى المياه الجوفية. وقد تكون تلك الملوثات هي المبيدات أو الأسمدة الزراعية أو من مقالب القمامة أو من تسربات مخازن الغاز أو المجاري.
الدول النامية.. والمياه الجوفية
من المعلوم أنه من بين 23 مدينة كبيرة على مستوى العالم يزيد عدد سكانها عن 10 ملايين نسمة، تعتمد 12 منها على المياه الجوفية من أجل مياه الشرب والاستخدام اليومي، جميع تلك المدن الاثنتي عشرة توجد بالدول النامية إلا واحدة، وهي مدينة لندن. ومع أن كثيراً من دول العالم تمتلك تحت سطحها طبقات صخرية مائية - منها ما يتم استخراج المياه منه الآن ومنها ما لم يتم استغلاله بعد - إلا أنه ينبغي من أجل ضمان إمكانية استغلال تلك المياه رسم سياسات من أجل حسن استغلالها.
فمشكلة زيادة استغلال المياه عن معدل إعادة اختزانها قد أصبحت حقيقة مخيفة حيث يتم سحب أكثر من 200 كم مكعب من المياه الجوفية سنويًّا زيادة على قدرتها على إعادة الاختزان. ويتم 66% من زيادة السحب تلك في الهند.
بل ويذكر أن 25% من المحاصيل الزراعية بالهند تنتج حاليا في أراضٍ تعاني بشدة من زيادة سحب المياه الجوفية، وهو ما يعرض مستقبل الهند الزراعي للخطر.
وبسبب زيادة سحب المياه الجوفية بدأت مشاكل عديدة تظهر، منها: تضاؤل كميات المياه النظيفة المتوفرة للشرب والزراعة؛ ففي منطقتي جوجارات وراجاسثان بالهند مثلاً، وبسبب زيادة السحب بدأت المياه الجوفية بها تتلوث بمادة الفلورايد.
أما في المناطق الساحلية الهندية فقد أدت زيادة السحب إلى زيادة ملوحة المياه الجوفية بها. وفي بنجلاديش نرى المشكلة المزمنة من تلوث مياهها الجوفية بالزرنيخ أيضا لنفس السبب.
وقد بدأت حكومات الدول المتقدمة في الاهتمام بشراء جميع الأراضي التي تعلو طبقات صخرية مائية من أجل المحافظة عليها من أنواع التلوث المختلفة التي قد تتسرب إليها.
أما في الدول النامية، وبسبب زحف سكان الريف إلى الحضر، وبالتالي زيادة رقعة المدن الحضرية بسرعة كبيرة، ودون تخطيط ملائم للبنية التحتية، فقد نتج عن ذلك تلوث الكثير من المياه الجوفية بسبب عدم ملاءمة أنظمة المجاري بها؛ وهو ما أدى إلى ظهور أوبئة مثل الكوليرا بأمريكا اللاتينية، والهند، ومنطقة شرق أفريقيا.. كل ذلك بالإضافة إلى التلوث الذي ينتج عن مخلفات الصناعة.
دور هيدرولوجيا النظائر
يأتي دور علماء الهيدرولوجيا –أي علوم المياه- من خلال عمل خرائط توضح أماكن تواجد المياه الجوفية إلى جانب مصادر إعادة اختزانها، وتحديد مدى وفرتها، وإمكانية تعرضها للملوثات. كما يقوم علماء الهيدرولوجيا بتحديد كميات السحب الآمنة من تلك المياه الجوفية من أجل حسن استغلالها، وذلك من خلال تحديد عمر تلك المياه لمعرفة معدلات إعادة الامتلاء بها.
يتم عمل كل ذلك من خلال تقنية هيدرولوجيا النظائر، والتي تعتمد في الأساس على مراقبة الدورة المائية التي تشمل تبخر المياه من أوراق النباتات ومن الأنهار والبحيرات والمحيطات؛ لترجع مرة أخرى على هيئة أمطار أو جليد.
وفي كل مرحلة من مراحل الدورة المائية يلاحظ وجود تغير بسيط في تركيزات نظائر الأكسجين والهيدروجين في المياه. والنظائر هي ذرات أحد العناصر التي تتميز بتطابقها من الناحية الكيميائية، ولكن تختلف في كتلتها، أي أن لديها نفس عدد البروتونات داخل نواتها وعددًا مختلفًا من النيوترونات.
وبسبب وجود وفرة طبيعية من النظائر التي تكوّن المياه والملوثات عامة، مثل نظائر الهيدروجين والأكسجين والكربون والنيتروجين، والتي تشير إلى مصادر المياه واتجاه تحركها تحت سطح الأرض، فإنه بالإمكان استخدام تلك النظائر كمؤشرات لكل ذلك، بالإضافة إلى معرفة مصادر تلوث المياه.
فعلى سبيل المثال، فإن عامة نظائر الهيدروجين والأكسجين – مكونات الماء - تعتبر من النظائر الخفيفة من حيث كتلتها، وحين تتبخر المياه من المحيطات، تتكاثف نظائرهما الثقيلة أولاً لتسقط على هيئة أمطار تليها النظائر الخفيفة. وبالتالي كلما ابتعدت الأمطار في سقوطها عن الساحل قلت النظائر الثقيلة بها؛ وهو ما يسمح للعلماء برسم خريطة لمرور وحركة المياه معتمدين على كميات النظائر بها؛ وبالتالي يمكنهم أيضا تحديد مصدر إعادة امتلاء إحدى الطبقات الصخرية المائية حسب كميات النظائر الثقيلة والخفيفة بها.
عمر المياه
حين تتم معرفة مصدر إعادة اختزان إحدى الطبقات الصخرية المائية يمكننا تحديد عمر المياه بها – أي آخر مرة كانت تلك المياه قد لامست الغلاف الجوي. وعلى هذا يمكننا معرفة المدة التي استغرقتها المياه لتصل من مصدرها ليعاد اختزانها في تلك الطبقة الصخرية المائية، وبالتالي يمكننا حساب الكميات الآمنة للسحب من تلك الطبقة.
ففي حالة المياه حديثة العهد بالغلاف الجوي يمكننا استخدام التريتيوم H3 و He-3 . فالتريتيوم هو نظير مشع للهيدروجين يتفكك إلى He3 ويعتبر عمره النصفي 12.4 سنة.
وبالتالي يتم حساب كمية التريتيوم وكمية الهيليوم 3 الناتجة عن تفكك التريتيوم ليعتبر مجموع الكميتين هو كمية التريتيوم الأصلية عند بداية إعادة الاختزان.
وباستخدام تلك الطريقة يمكننا حساب عمر المياه التي تكون أقل من 40 ألف سنة بدرجة دقة في حدود العام الواحد أو أقل.
أما لحساب عمر المياه التي يزيد عمرها عن 40.000 سنة فيمكننا حساب كميات الكربون 14 والذي يتفكك بمعدل نصف عمري 5730 سنة، كما يمكننا استخدام النظير هليوم 4 والذي ينتج بصفة مستمرة داخل باطن الأرض نتيجة تفكك اليورانيوم والثوريوم. كما يستخدم النويدات المشعة radionuclides طويلة العمر – الكلور 36 واليود 129 من أجل دراسة مجاري المياه الجوفية الأقدم عمرًا.
ومن خلال معرفة مصدر إعادة اختزان إحدى الطبقات الصخرية المائية ومعرفة مدى سرعة وصول المياه من المصدر إلى الطبقة يمكننا أيضًا معرفة خطورة تعرض تلك المياه للتلوث بسبب وجود مصانع - مثلاً أو أنظمة مجارٍ - بنفس تلك المناطق، وبالتالي رسم سياسات للمحافظة على تلك المياه.. كما يمكننا رصد وتحديد نظائر النيتروجين بالمياه من أجل تحديد مصدر التلوث.
وقد لجأت العديد من الدول العربية إلى استخدام تلك التقنية في رسم سياساتها المائية، نذكر منها مصر والأردن واليمن والسودان والمملكة العربية السعودية.
يذكر أن الأمم المتحدة تحتفل في الثاني والعشرين من مارس الحالي باليوم العالمي للمياه، والذي تدور مراسمه هذا العام حول فكرة "المياه من أجل التطور".